رؤية...
استخدام الريع البترولي في الاستثمار
تراكمت في مصر العديد من العوامل الذاتية والموضوعية السلبية، الوطنية والخارجية، التي تسارعت وازدادت تأثيراتها السيئة على مدى العقود الأربعة الماضية لتؤدي إلى واقع الدولة الراهن، الشديد الضعف، المتمثل بدوامة أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية المعقّدة، وتفاقم تحدياتها الأمنية واستمرار خطورة الحركات الإرهابية الإسلامية التكفيرية، والتدخل الأجنبي
لواسع في الشؤون الداخلية للبلاد.
من المنطقي أن يتفق الجميع في مصر على أن الظروف الشديدة الاضطراب السائدة تتطلب التشديد على أسبقية مكافحة الإرهاب وتأمين الاستقرار الأمني من قبل المؤسسات العسكرية والأمنية واحتلاله الأولوية في مهام التغيير المطلوب لتأمين الاستقرار السياسي وتأسيس دولة الحريات والديمقراطية. وفي تقديرنا، أن هذه الأولوية لا تتعارض مع أولوية عمل المؤسسات الحكومية المدنية، وبالتوازي مع استمرار الجهود الأمنية، بمهام استعادة القدرة على إحياء النشاط الاقتصادي، وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والرعاية الاجتماعية العامة، مع إعادة بناء وتطوير البنية الأساسية الاقتصادية والبيئية. في هذا الإطار، تبرز أهمية وأسبقية معالجة
المعضلة الاقتصادية المزمنة المعروفة، أي، اعتماد الدولة الكبير على الريع البترولي الذي أصبح من العوامل
الأساسية في الاقتصاد السياسي للبلاد الذي يتسم حالياً بضعف الإرادة السياسية الوطنية، والفشل الاقتصادي، وتعثر الممارسات الديمقراطية، وانتشار الفساد على نطاق واسع وخطير.
بعد فشل تجارب التخطيط الشمولي في البلدان النامية وانخفاض الكفاءة الاقتصادية والمالية في العديد من مشاريع القطاع العام، تزايد الاهتمام بدور السوق وحرية المنافسة وكفاءة القطاع الخاص في زيادة الإنتاج والإنتاجية، وتم التشديد على ضرورة تفعيل السياسات الاقتصادية للحكومات بتحرير آليات السوق وتشجيع القطاع الخاص وخصخصة مشاريع القطاع العام، وتوفير البيئة المناسبة للاستثمار الأجنبي المباشر. وبالنسبة إلى مصر، وكما في بلدان الريع البترولي الأخرى، لم تحقق التجارب العملية النجاح في تطبيق هذه السياسات بإيجاد مصادر جديدة للإنتاج والدخل والصادرات، ولم تثمر في إحداث تغيير هام في أسبقيات الاستثمار الخاص المتركزة في تجارة الاستيراد والعقارات وأنشطة الخدمات الأهلية، وهي من الفعاليات غير القابلة على التصدير.
في مصر، يتطلب البحث في سبل الخلاص من الفخ الاقتصادي السياسي للريع البترولي التقيد باعتبارات رئيسية تتعلق بمسؤولية إدارة السلطة الحاكمة للثروة البترولية، وإدراك حدود دور السوق
وحرية المنافسة في تعبئة وتوزيع الموارد من جهة، وبيان ضرورة ومنافع التنويع الاقتصادي الهيكلي من جهة ثانية. فبالنسبة إلى إدارة السلطة للثروة البترولية ودور السوق في توزيع موارد البلاد الاقتصادية، تكشف التجربة المصرية أهمية الوضوح والالتزام بالمبادئ التالية:
التشديد على الملكية العامة للثروة البترولية ودلالتها في ضرورة التوزيع العادل للدخول ولمنافع النمو والتنمية بين المواطنين عند اعتماد الاستراتيجية والسياسات الاقتصادية وذلك لحماية حقوق الأجيال القادمة من الإفراط في استغلال هذه الثروة الناضبة.
التشديد على مركزية استغلال الإيرادات البترولية من قبل الدولة وممارستها من خلال برامج
وسياسات ومشاريع البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الممولة من الحكومة المركزية، وليس الاستثمار في الشركات العالمية والأسواق المالية الدولية.
أهمية العمل بمعايير موضوعية واضحة وبصيغ كمية قابلة للقياس، لتحديد أسبقيات الاستثمار، وبخاصة الاستثمارات التي تسهم الدولة والقطاع العام في تمويلها، على المستويات كافة، ونقلها إلى واقع التنفيذ الفعلي في إطار برنامج واضح يشمل عدداً معيناً من مشاريع الصناعات التحويلية المناسبة، كما نستنتج من تحليلنا هيكل الاقتصاد الوطني، ويحدد مصادر تمويله، وآليات تنفيذه، وليتم منح الصلاحيات الكافية لإدارته بكفاءة اقتصادية على نحو يماثل إدارة مشاريع الشركات الصناعية الكبرى للقطاع الخاص في السوق العالمية.
وفي الوقت الحاضر، تحتاج مصر إلى تأسيس
مجلس تنمية كجهاز وطني
تابع للدولة ومستقل عن السيطرة المباشرة للحكومة وذلك بهدف إقامة مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ولتحسين مناخ عمل القطاع الخاص أيضاً. ولهذا الغرض، يجب تخصيص معظم الإيرادات البترولية لميزانية المجلس، بينما يجب تخصيص نسبة أقل من هذه الإيرادات لتمويل الميزانية الحكومية السنوية.
تعليقات
إرسال تعليق